“نفذنا غارة بقنبلة خارقة للدروع واستهدفنا مقر قيادة حزب الله أثناء اجتماع برئاسة حسن نصر الله”.. هكذا قالت إسرائيل مع الساعات الأولى لليل الجمعة الماضية، بعدها تدفقت الأنباء حول مصير أمين عام حزب الله حسن نصر الله، ما بين رافض لتصديق الرواية الإسرائيلية، ومترقب لبيان رسمى يحسم حقيقة اغتيال السيد.
مرت ساعات، اكتفى خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، بمطالبة المستفسرين عن مدى نجاح عملية اغتيال نصر الله بالانتظار، بينما فى لبنان كانت رواية من هناك تؤكد ورواية تنفى، ودخل الجميع فى حالة من الضبابية، وفى النهاية أصدر حزب الله، بيانا رسميا عصر السبت، أعلن فيه استشهاد قائده فى الغارة الدموية التى نفذها الاحتلال بقنبلة أمريكية خارقة للدروع قيل إنها استهدفت رجال الحزب فى الدور الـ 14 تحت الأرض.
تصفية سيد المقاومة اللبنانية
الرواية الإسرائيلية حول تصفية سيد المقاومة اللبنانية، أصبحت حقيقة، بعد الحصول على معلومة ذهبية، كما وصفتها أجهزة تل أبيب، تعكس أيضا مدى نجاح الموساد وغيره من مسميات أجهزة استخبارات العدو الصهيونى فى تجنيد غابة من الجواسيس، تسهل الوصول إلى الرؤوس الكبيرة بمعلومات دقيقة عن التحركات وتساهم فى وضع العلامات وزرع أجهزة التتبع لنجاح عملية الاغتيال.
وهكذا كان مشهد النهاية لصاحب التاريخ الطويل فى المقاومة اللبنانية، الذى بدأ صباه عضوا فى حركة أمل، وانخرط فى تأسيس حزب الله لاعتراضه على نهج الحركة الأولى فى مقاومة الاحتلال، الأمر الذى اعتبره انبطاحا.. فهل انتهى الحزب بموته كما أصيبت حركة أمل بالتهميش بعد رحيله، أم مازال للمواجهة فصول فى كتاب التاريخ الإقليمى، وهل ستنخرط إيران (الساكنة) فى عملية انتقامية لرجالها، خاصة بعد صمتها المريب منذ اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسى السابق لحركة حماس الفلسطينية فى قلب إيران.. أم هل ترسم إسرائيل خريطة جديدة للشرق الأوسط كما زعم نتنياهو بمعاونة أمريكا؟
السطور التالية ترصد من خلالها «فيتو» تفاصيل ما حدث ومستقبل الإقليم المضطرب وفقا لقراءة تحليلية فى مجريات الأحداث.
لابد من العودة إلى الماضى، قبل قراءة المستقبل وتحديدا منذ خلع نظام الشاه الإيرانى، رضا بهلوى وتمكين آية الله الخمينى من حكم الجمهورية الإسلامية، يوم 1 فبراير 1979 حيث دخلت المنطقة من يومها مرحلة جديدة يبدو أنها تخرج منها حاليا بمخطط جديد، أو ربما تستمر فى نفس النهج ولكن بوجوه أخرى بعيدة عن هنية ونصر الله وغيرهما من قادة جماعات يطلق عليها “محور المقاومة”.
مع عودة المرشد الأول للجمهورية الإسلامية، صاغ دستور بلاده الجديد الذى رسخ نظرية الولى الفقيه، وأنهى جميع مظاهر التغريب التى شرع الشاه فى جلبها للدولة، سواء فرنسا التى عاد منها، أو بريطانيا صاحبة النفوذ الاستعمارى القديم، أو الولايات المتحدة التى ترهق مسامعنا بالحريات والديمقراطيات.
ما سبق ربما يكون شأنا داخليا فضل الغرب مصالحه عن التدخل فيها، لكن المريب هو السياسة الخارجية لنظام الولى الفقيه الإيرانى، الذى دعا لتصدير الثورة، دون إبداء أمريكا أى اعتراض، بل إنها وفرت لإيران دعمًا حقيقيًا لمشروعها التوسعى فى العام 2003 عندما سلمتها العراق على طبق من ذهب.
ميلاد الهلال الشيعى وابتزاز الخليج
خلال العقود الماضية، خلقت إيران ما يسمى بالهلال الشيعى، ورسخت لمذهبية مقيتة دفعت بالمنطقة فى آتون حروب مذهبية، وساهمت فى خلق تنظيمات إرهابية فيما بعد، وهناك معلومات ووقائع فعلية حول قنوات التواصل والتفاهمات خلال العقود الماضية بين واشنطن وتل أبيب من جهة، وجميع التنظيمات التى نشأت فى رحم هذا الهلال، سواء فى اليمن أو العراق أو لبنان من جهة أخرى، وطالت دولا خليجية أبرزها البحرين والسعودية والكويت.
هذا الهلال وتصنيف المنطقة لمحورى مقاومة واعتدال، ظهر جليا خلال السنوات الماضية، وجرى استغلاله جيدا فى ابتزاز الدول العربية، وخاصة الخليجية، وجعل منه فزاعة للجميع دفعت أنظمة هذه الدول إلى التطبيع مع الكيان المحتل، وغلق ملف القضية الفلسطينية، وهو ما حدث بشكل كبير، فهناك شعوب عربية فى الوقت الراهن تحضر الحفلات فى الكيان الغاصب، بينما تتظاهر الشعوب الغربية تنديدا لما يحدث فى غزة، ولأن العرب لا يجيدون القراءة، فإنهم لم يلحظوا- بسبب انشغالهم بالخوف على مقاعدهم فى قصور الحكم الفارهة- ما دار حولهم فى الماضى بزرع النظام الإيرانى الإسلامى، وما كشفته وثائق الجارديان حول العلاقة بين الخمينى وواشنطن، ولم تنل قسطا من وقت العرب الثمين كما أنه- إبان الحرب العراقية الإيرانية- لم تستفد من الكشف عن فضيحة «إيران جيت» حينما باعت إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان خلال ولايته الثانية فى ثمانينيات القرن الماضى، أسلحة إلى إيران فى صفقة سرية تمت بوساطة إسرائيلية، لمعاونة طهران فى حربها ضد نظام الرئيس العراقى الراحل صدام حسين، وتم نقل الأسلحة الأمريكية حينها إلى تل أبيب وتسلمتها طهران من هناك.
وخلال هذه الرحلة الطويلة من الخداع والتآمر على المنطقة والشعوب العربية، ظهر الحوثيون وحزب الله وحديثا المقاومة الإسلامية فى العراق بعد إعدام صدام، وتسليم بغداد إلى طهران على طبق من ذهب.
خروج عن النص
إيران التى تمتلك أرشيف العلاقات والصفقات والتفاهمات مع الغرب وأمريكا وإسرائيل، مع السنوات الطويلة ولعب دور العدو لأمريكا، وتبدل الوجوه والأنظمة،ساهمت فى صنع رموز من العرب فى البداية بغسل الأدمغة بالعقيدة الشيعية وشراء الولاء، وظهرت رموز بارزة مثل حسن نصر الله، -لا نستطيع التشكيك فى ولائه لعروبته والقضية الفلسطينية- لكن نصر الله وغيره من الرموز العربية الأخرى، كانت لديهم قضيتهم التى يدافعون عنها، وبسبب مشاعر كرههم للعدو الإسرائيلى نتيجة العدوان على بلدانهم وفقدهم فلذات أكبادهم وأحبابهم، وجدت فيهم طهران صيدا ثمينا، استغلتهم فى بداية الأمر بتأليب استقرار أوطانهم ضد الحكام، وعاونتهم لانتزاع جيوب داخلية لصناعة دول صغيرة موالية لها داخل الدول العربية.
فى المقابل رسمت إسرائيل معادلة جديدة، وسعت لتغيير الوضع بابتزاز الدول العربية بالفزاعة الإيرانية، وفتح علاقات مباشرة مع هذه الدول، وفرضت اتفاقات التطبيع المعروفة باسم «أبراهام» مرحلة جديدة بين تل أبيب وتلك العواصم التى ظلت لعقود تحت الابتزاز.. وجاء طوفان الأقصى ليغير المعادلة برمتها، وينسف الخطط والأحلام، ويوقف مسار أبراهام الذى رسمه الثنائى «نتنياهو وترامب» وانتفضت أذرع إيران الإقليمية لكونها فى الأساس دماء عربية، لما يحدث فى غزة، واستخدمت ما تدربت عليه لأهداف داخلية فى مجابهة العدو الإسرائيلى انتفاضا لأمتها، فى المقابل اكتفت إيران بالشعارات لمناصرة القضية كما يقول الشوام عنها «تبيع كلاما أكثر من السجاد»
ومع اغتيال هنية على أراضيها بخيانة داخلية التزمت الصمت، وبعدما قصفت بعثتها الدبلوماسية فى دمشق اكتفت برد مسرحى لا يضاهى طوبة يحملها طفل فى غزة لمقاومة المحتل، وبعد اغتيال نصر الله لم تتحرك قيد أنملة بعملية انتقامية من رجل دفع حياته نصرة للقضية، وهكذا كان رد فعل الجمهورية الإسلامية، على اغتيال جنرالها الأبرز قاسم سليمانى، قائد فيلق القدس السابق، ووقتها قال الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، الذى تمت العملية فى عهده، خلال تجمع انتخابى له خلال نوفمبر الماضى: «لقد كان عليهم أن يردوا لحفظ ماء وجههم وهذا أمر طبيعي، ثم أبلغونا أنه سيتم إطلاق 18 صاروخًا على قاعدة أمريكية فى العراق لكنها لن تستهدفها مباشرة، بل ستستهدف فقط محيط القاعدة»
مستقبل المنطقة
طوفان الأقصى مثلما خلط أوراق المنطقة، وكشف الوجوه وعطل الاتفاقات، يستغله حاليا نتنياهو واليمين المتطرف، للتعجيل بمشروع إسرائيل الكبرى، لذلك لن تتوقف آلة القتل الإسرائيلية، عن جرائم الإبادة فى غزة، وانتهاج سلسلة الاغتيال، لتصفية جميع الحركات التابعة لإيران، وتقديم رؤوس هؤلاء القادة عربون صداقة مع الدول العربية التى ظلت لعقود تبتزها بفزاعة إيران، ومن غير المستبعد أن تطال هذه الاغتيالات،عبد الملك الحوثي، زعيم جماعة أنصار الله اليمينية، ورموز بارزة فى المقاومة الإسلامية بالعراق، بهدف تعطيل قدرات هذه الجماعات عن مساندة غزة، لتسهيل مهمة القضاء الكامل على حركة حماس، على أمل اصطياد يحيى السنوار، زعيم الحركة الحالى فى المستقبل المنظور.
الخريطة التى رفعها نتنياهو فى الأمم المتحدة، وتهديده لإيران باليد الطولى وباقى دول الشرق الأوسط، تكشف إلى حد كبير الخط الجديد الذى رسمته تل أبيب، فى ظل مساعيها لتخليص واشنطن من حليفتها القديمة، منتظرة عودة ترامب إلى البيت الأبيض، لاستكمال توقيع عقود أبراهام المعطلة مع باقى العواصم الخليجية والعربية، لضمان تمددها والسيطرة على الإقليم عقب إزاحة المشروع الإيراني، المتوقف حاليا على ضربة بالقنابل الخارقة للدروع لمفاعلاتها النووية.
الخطر الأكبر
لعبة المصالح والمشاريع فى المنطقة بين الإيرانى والإسرائيلى والأمريكى والتركى والروسى والصينى، كشفت إلى حد كبير عورة العرب، وغياب أى مشروع لهم، وأظهرتهم عاجزين أمام العدوان على غزة، مكتفين ببيانات التنديد والشجب، ومناشدة منظمات دولية منبطحة للإدارة الأمريكية فقدت فاعليتها، وهذه الحالة العربية ومع نشوة الانتصار التى يعيشها نتنياهو وعصابته المتطرفة، ربما تشير وتؤكد أنه بمجرد الانتهاء من الخلايا المزعجة، وإتمام مشروع التطبيع فإنه سوف يتم البدء فى محاربة الأنظمة الشرعية والجيوش النظامية لضمان هيمنتها على منطقة تراها بلا صاحب.
الخط المرسوم للاحتلال الإسرائيلى يتناغم مع الرغبة الأمريكية التى باتت ترى فى إيران، حليفا قديما يثير الإزعاج بعدما خرج عن النص، والدور الموضوع منذ أيام ريجان، وساهم فى ذلك تواجد الصين وروسيا بمناطق النفوذ والصراع على ثروات أمة تائهة بين الأمم تهرول خلف الوصاية الخارجية السياسية والعسكرية رافضة الاستقلال عن المستعمر.