محمد رحيم
جيهان حسين
“الحزن” ليس مجرد كلمة من ثلاثة أحرف، ولكنه “إعصار” يبتلع في طريقه كل شيء. لم يستطع أعتى علماء البشر السيطرة عليه أو قياسه، أو حتى تحديد آثاره بدقة، إذ كيف يمكن للنفس البشرية أن تخضع بسهولة لمعامل التجريب؟! فلسفوا الحزن واعتبروه “ثمن الحكمة”، وفق أرسطو، و”جزءًا أصيلا من الحياة”، وفق نيتشه، وكان للإمام الغزالي وصف بليغ للحزن، حينما قال عنه: “يعصف بالروح”. أما مولانا جلال الدين الرومي، في كتابه “المثنوي”، فلا يرى حزنا حقيقيا إلا في “البعد عن الخالق”، وما دون ذلك مجرد أحزان “طارئة” تخفي في جوهرها “لطف الله”، تنقي القلب وتطهر النفس من الشوائب، معتبرًا كل ألم هو “قطعة صغيرة من الموت” نجتازها استعدادًا للموت الأكبر.
وإن كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش قال: “لم يقتل الحزن أحدًا.. ولكنه جعلنا فارغين من كل شيء”، فالمجاز هنا لا يعول عليه أمام دراسات علماء الطب والصحة النفسية والتي رصدت “الأذى المباشر وغير المباشر” لمشاعر الحزن والألم على البشر، بمختلف أجهزته الحيوية، وارتباط مشاعر الحزن بزيادة إفراز هرمونيْ “الكورتيزول” و”الأدرينالين”، ما يزيد الضغط على القلب والمخ والشرايين والجهاز العصبي والمناعي، ليقع “الحزين” فريسة سهلة لـ”حزمة” أمراض تداهمه وتنهشه بلا رحمة، لدرجة تصل للوفاة المفاجئة في طرفة عين، أو أقل، فلا ريب إذن، أن يستعيذ رسولنا الكريم من ذاك القناص الماهر والقاتل المحترف: الحزن.
ولأن الفنانين، هم الأقرب إلى مباهج الحياة، صخبها ومتعتها وملذاتها، فهم الأقرب، أيضًا، لآلامها وأحزانها، وفي النهاية، فهم الأقرب أيضًا، إلى “الموت حزنا”، فالفنان بطبيعته المرهفة، ومشاعره الرقيقة، ونفسيته الهشة، ودموعه الرقراقة، فريسة مطيعة لمشاعر الضغط العصبي التي تتغلغل لأضعف نقطة في جسده: قد تكون قلبه أو جهازه المناعي، أو حتى شرايين مخه، وعندما سألوا النجم أحمد عز عن “قوامه الرياضي” أكد أن “مواظبته على الذهاب للجيم تحميه من زيارات الطبيب النفسي”، فالبعض يحارب أحزانه بالرياضة، والبعض الآخر يلوذ بالحفلات والسهر والسفر، بينما يستسلم أحدهم في النهاية ويسقط صريع الألم تحت تسميات “تشريحية” مختلفة: نزيف في المخ، أو هبوط في الدورة الدموية، أو مضاعفات مرض خبيث انتصر على جهاز مناعي منهك، أو سكتة دماغية، أو توقف مفاجئ لعضلة القلب، بعد هبوب عاصفة “أدرينالين الحزن” التي ترفع سكر الدم، أو تهاجم خلايا كرات الدم، أو “تفطر القلب”، كما يطلق عليها أطباء القلب “متلازمة القلب المكسور Broken heart syndrome)).
ومنذ أيام، رحل عن عالمنا الملحن الشاب محمد رحيم ( 45 سنة) صاحب طفرة في عالم الموسيقى لأشهر مطربي الوطن العربي، ولكن “أضواء الشهرة” لم تكن تليق بحجم نجاحاته وجوائزه العالمية، وكم ظهر يبكي ويشكو من “عدم التقدير”، والشللية في الوسط الفني، والتي لا ترحم ولا تشفع أمامها موهبة فذة، ولخص الشاعر بهاء الدين محمد في نعي “رحيم” معاناته ببضع كلمات موجعة: “ثمن الضغط على الإحساس.. الموت”، نفس الشاعر الكبير الذي كتب مطلع العام الماضي في نعي زميله الشاعر الغنائي ناصر الجيل، الذي أنهت حياته أزمة قلبية مفاجئة، عن عمر “48” عامًا، وجاءت كلمات بهاء الدين محمد وقتذاك: “دي نهاية الضغط النفسي والعصبي”.
ومنذ أقل من شهر، صُدم الوسط الفني، والجمهور برحيل الفنان القدير حسن يوسف، عقب أشهر قلائل من “غرق” نجله الأصغر، فلذة كبده “عبد الله”، وكان جمهوره “قلقا” يشعر باقتراب رحيل الفنان الكبير بعد أشهر من هجوم “غول الحزن” الذي ظل يقضم أجزاء من روحه رويدا رويدا، وفي مثل هذه الأيام، قبل سنوات خمس، استيقظ الجمهور على فاجعة العثور على جثة الفنان الشاب هيثم أحمد زكي، في منزله، بعد تحقق نبوءته بـ”الموت وحيدًا”، حيث كان يعيش بمفرده مع توءميه: “الحزن والوحدة” يتناوبان على نهش قلبه المسكين، منذ طفولته التي حرمته فيها الأقدار من والدته الفنانة الملائكية هالة فؤاد ثم والده العبقري أحمد زكي، وكأنما اتفقت الأحزان على توقيع “عقد بطولة أبدي” في سيناريو حياة الثلاثي الراحل.
ولم يحتمل الفنان الشاب أحمد قنديل، العيش طويلا بعد رحيل والدته، أقرب الناس إليه، وفي يوليو العام الماضي، توقف قلبه الذي لم يكمل عامه السادس والثلاثين، بعد نجاح كبير في دور الضابط “إسلام مشهور” بالملحمة الأيقونية “الاختيار”، مثلما اختار قلب الإعلامي الشاب عمر نجيب، أن يتوقف عن الخفقان للأبد، حزنا على رحيل ست الحبايب، في فبراير 2020، وفي إحدى ليالي يونيو 2018، كان الفنان الشاب ماهر عصام، يشاهد مباراة مصر وأوروجواي في كأس العالم، وفجأة انفعل بشدة وسقط مغشيا عليه، وفاضت روحه إلى بارئها، وكان التشريح “وفاة إثر نزيف في المخ”، وفهم الجمهور “الكواليس” عقب نعي الممثل الشاب محمد عبد الحافظ، لصديقه “ماهر” بكلمات موجعة قال فيها: “الحياة كانت قاسية بفعل الوسط الفني المرعب والقاسي على أبنائه الموهوبين، فلم يطلبه منتجون أو مخرجون للعمل، واضطر للسكن في شقة إيجار جديد، وتوفيت والدته وتركته وحيدا، ووصل إلى 38 عامًا ولم يتزوج ولم يدخل دنيا وإنما خرج منها”. أما الفنانة الكوميدية حنان الطويل، صاحبة الأدوار الشهيرة “ميس انشراح” في فيلم “الناظر”، و”ست كوريا” في فيلم “عسكر في المعسكر”، فقد اختارت لها الأقدار سيناريو “تراجيدي”، أسدل الستار على حياتها قبل بلوغها الأربعين، حيث كانت أجرت عملية جراحية “تحول جنسي” في بداياتها بعد أن كانت رجلا، ولفظها أهلها بعد ذلك، وأصيبت بصدمات عصبية حادة، وتم إيداعها مستشفى الأمراض النفسية، لتلفظ أنفاسها الأخيرة هناك، ورفض أهلها تسلّم جثمانها، ليتم دفنها في مقابر الصدقة. ومنذ أكثر من نصف قرن، عاش العبقري محمد فوزي سنوات الحزن والعذاب، عقب تأميم شركته “مصر فون”، ليصاب بمرض نادر في الغشاء البريتوني، لم يُصِب سوى “5” أشخاص في العالم، فقط، وقضى نهايات رحلته بين مستشفيات لندن وألمانيا، دون جدوى، حتى لقي ربه في 20 أكتوبر 1966.