– فى أول زيارة له للقاهرة قلت: إن الهواء فاسد.. النتن فى القاهرة
– أسامة الباز أبلغنى أن نتنياهو احتج وأبلغ احتجاجه للرئيس مبارك
– صحفى إسرائيلي سأل مبارك عن مانشيت “الأحرار” فرد الرئيس: هذه حرية الصحافة
– رفضت طلب الرئيس بحضور لقاء نتنياهو مع 40 من المثقفين المصريين
هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشتُ فصولَها، انتصاراتِها وانكساراتِها، حُلوَها ومُرَّها، اقتربتُ من صنَّاع هذه الأحداث أحيانًا، وكنتُ ضحيةً لعنفوانهم في أحيان أخرى، معاركُ عديدة دخلتُها، بعضُها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي وقناعاتي.
أروي هذه الشهادات، بصدق وموضوعية، بعضُ شهودها أحياء، والبعضُ رحل إلى الدار الآخرة، لكنَّ التاريخ ووقائعه لا تُنسى، ولا يمكنُ القفزُ عليها، وتزويرُ أحداثِها.
1- القضية الفلسطينية
شكلت القضية الفلسطينية منذ بداية شبابي محورًا هامًا في أفكاري ومواقفي، كنت أتابع تطورات القضية عن كثب، ربطتني علاقات وثيقة بقادة منظمة التحرير وفى مقدمتهم ياسر عرفات وأبو إياد وأبو جهاد وفاروق قدومي «أبو اللطف» وهايل عبد الحميد «أبو الهول» والطيب عبد الرحيم وغيرهم كثير.
ومنذ دراستي الجامعية أصدرت كتاب “الإرهاب الصهيوني” عن دار العربي للنشر والتوزيع، وكتاب «بيجين وقضايا العنف والسلام» الصادر عن دار الثقافة الجديدة.
كنت أتابع التطورات الحاصلة داخل الكيان الصهيوني ومسيرة المتطرف الصهيوني بنيامين نتنياهو، وتزعمه لحزب الليكود اليمني المتطرف منذ بداية التسعينيات، وكيف نجح فى تولى منصب رئيس الوزراء خلفًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق شامير، والذى تولى بدوره رئاسة الحكومة الإسرائيلية خلفًا لإسحاق رابين الذى لقى مصرعه على يد أحد غلاة المتشددين الصهاينة.
كان بنيامين نتنياهو، أحد المحرضين على قتل رابين، بعد أن حمَّله مسئولية التفريط فيما أسماه “أرض إسرائيل” بتوقيعه على اتفاقية أوسلو مع القيادة الفلسطينية فى عام 1993.
لقد صعد نتنياهو إلى قمة السلطة فى الكيان الصهيوني إيمانًا بمواقفه المتطرفة التي لقنها له والده “تسيون نتنياهو” والذى كان مديرًا لمكتب الإرهابي المتطرف زئيف جابوتنسكى، كنت أدرك أن صعود نتنياهو للسلطة فى إسرائيل سيحمل معه تطورات وخططا خطيرة من شأنها إجهاض ما نصت عليه اتفاقية أوسلو.
كنت فى هذا الوقت رئيسًا لتحرير صحيفة «الأحرار» اليومية، ومنذ البداية اتخذت الصحيفة موقفًا واضحًا ضد نتنياهو وسياساته وأفكاره المتطرفة.
عندما علمت بزيارة نتنياهو، إلى القاهرة ولقائه الرئيس حسنى مبارك، أصدرنا عددًا خاصًا من الصحيفة يتضمن تحقيقات وأطروحات تكشف وتفضح أفكاره ومواقفه.
لقد حمل العدد الخاص من صحيفة الأحرار الصادر فى يوم زيارة نتنياهو إلى القاهرة فى 18 من يوليو 1996، عنوانًا يقول «الهواء اليوم فاسد.. لا للنتن ياهو على أرض القاهرة».
كان العدد الخاص مكونًا من ست عشرة صفحة، وقد أثار حالة شديدة من الجدل، وقامت العديد من الصحف والوكالات العربية والأجنبية بنقل مضمون المانشيت وبعض مما تضمنه العدد فى صفحاته.
عقب انتهاء المباحثات، عقد مؤتمر صحفى بين الرئيس مبارك ورئيس الوزراء الإسرائيلى، وخلال المؤتمر وجه أحد الصحفيين الإسرائيليين سؤالًا إلى الرئيس مبارك قائلًا: ما رأيك فيما نشرته إحدى الصحف «المعارضة» من أن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى لوثت هواء القاهرة؟
كان الرئيس مبارك ذكيًا فى رده، حيث قال: فعلًا إن الجو لم يكن جيدًا بالفعل قبل مجيء رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى مصر، ثم إن هذه هي حرية الصحافة، أليست لديكم حرية صحافة؟!
كانت إجابة الرئيس مبارك، رادعة وحاسمة، أكفهر وجه نتنياهو، وابتسم ابتسامة ساخرة، لكنه لم يعلق على الأمر، لقد أدرك أن الرد يعد بمثابة صفعة على وجه الصحفي الإسرائيلي وإهانة لشخصه.
2- مكالمة الدكتور أسامة الباز
لقد علمت فى هذا الوقت أن نتنياهو أوحى للسفارة الإسرائيلية، بالاحتجاج لدى وزارة الخارجية على هذا العدد الخاص والمانشيت الذى اعتبرته مسيئًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي، وقد اتصل بي د.أسامة الباز، المستشار السياسي للرئيس مبارك، ليبلغني أن رئيس الوزراء الإسرائيلي اشتكانى عند الرئيس مبارك، واتهمني واتهم صحيفة الأحرار بالإساءة إليه شخصيًا وإلى العلاقات المصرية- الإسرائيلية.
وقال د.الباز: إن الرئيس مبارك طلب منى إبلاغك باحتجاج نتنياهو، يومها انفعلت كثيرًا، وقلت للدكتور الباز: إن هذه الزيارة عار علينا جميعًا، وما قلته هو أقل شيء يقال ضد هذا المجرم.
مضت الأيام، وقام نتنياهو بزيارة تالية للقاهرة، وقد اتصل بى د.أسامة الباز، مجددًا وقال لى إن نتنياهو طلب اللقاء بعدد من المثقفين المصريين، وإن الرئيس مبارك يطلب منك حضور هذا اللقاء إلى جانب 39 آخرين تمت دعوتهم، وقال لى: لك الحق أن تقول ما تريد، لن يحجر أحد على رأيك أو موقفك، والرئيس يطلب منك الذهاب حتى تستطيع مواجهته بقوة.
قلت للدكتور أسامة الباز: أنا من حيث المبدأ أرفض مقابلته هو أو أى صهيونى، فما بالك بهذا المجرم، وتساءلت: ولماذا يطلب لقاء المثقفين المصريين، قال د.أسامة الباز: يريد أن يسمعوه ويسمعهم.
حكيت للدكتور الباز حكاية حدثت معى بداية رئاستى لصحيفة الأحرار، قلت له: فى شهر مايو من عام 1995، أرسل لي أحد المكاتب المصرية الشهيرة والمتخصصة فى إنتاج البرامج التليفزيونية برسالة على الفاكس، فاجأتنى مديرة مكتبى الأستاذة عبير، بهذه الرسالة، وهى فى حالة ارتباك شديد، قلت لها خير: قالت هذه رسالة من إسرائيل، انتفضت واقفًا وقلت هاتى الورقة، كانت الرسالة تحوى دعوة من القناة الأولى للتليفزيون الإسرائيلى تطلب فيها إجراء حوار مباشر معي لمدة ساعة على الهواء أتحدث فيه كيفما أشاء، ويفتح لي الباب واسعًا لأشرح أسباب رفضي للتطبيع مع الإسرائيليين.
قلت للدكتور الباز: لقد أبلغت مكتب إنتاج البرامج رفض العرض السخيف، وتحدثت عن ذلك فى صحيفة الأحرار فى هذا الوقت.
قلت للدكتور الباز: أنا أعتذر للرئيس مبارك ولن أقبل أبدًا بالجلوس مع أى صهيونى، فما بالك برئيس الوزراء.
لم يغضب الرئيس من موقفى، بل تفهم الموقف جيدًا، فقد كان موقفى من العدو الصهيونى موقفًا مبدئيًا، وكان موقفى من اتفاقيات التسوية مع إسرائيل هو الرفض مهما تعددت الأسباب، بل إن موقفى من كامب ديفيد، كان سببًا من أسباب اعتقالى ضمن الــ1536 فى أحداث سبتمبر 1981..
كنت أعرف أن مواقف الرئيس مبارك، من العدو الصهيونى ليست كما نسمعه فى التصريحات ونشاهده على وسائل الإعلام، فقد قال لى فى أحد اللقاءات: موقفك من الإسرائيليين عاجبنى، دول ملهمش أمان، والوضع اللى إحنا فيه هو اللى بيخلينا نتعامل معاهم.
كان مبارك يدرك أن للسياسة متطلباتها، وأن المرونة مع الإسرائيليين لا تعنى التخلى عن الثوابت، كان سعيدًا بانسحاب الاحتلال الإسرائيلى من آخر بقعة فى سينا (طابا) وكانت لحظات رفعه للعلم المصرى فوق هذه المنطقة عام 1989، بمثابة وسام على صدره، لأنه ناور كثيرًا، وصمم كثيرًا، وعاند كثيرًا، ولم يغمض له جفن إلا بعد عودتها إلى حضن الوطن.
قد تختلف مع الرئيس مبارك فى أمور متعددة، ولكن وطنيته وحرصه على تراب مصر مسألة لا أحد يستطيع إنكارها أو القفز عليها، وهو ما سنوضحه فى الحلقات القادمة، خاصة خلال زيارته إلى واشنطن عام 2004، ورفضه لمطالب الرئيس الأمريكى بوش ورفضه التفريط فى حقوق الشعب الفلسطينى، وهو الموقف الذى دفع الإدارة الأمريكية منذ هذا الوقت إلى إعطاء الضوء الأخضر لبدء مؤامرة إسقاط مبارك.
3 – زيارة نتنياهو إلى القاهرة
وفى شهر مارس من عام 1997، جاء نتنياهو إلى القاهرة فى زيارة أخرى، وقبيل أن يصل إلى العاصمة المصرية راح يخرج لنا لسانه ويؤكد أنه هو والسلام نقيضان، وأن مفهومه لعملية السلام يتحدد فى فرض المزيد من السيطرة وإضفاء الهيمنة على الأراضى المحتلة دون النظر إلى عملية السلام وأهميتها، وكان دومًا يرفع شعارات «لا للدولة الفلسطينية، لا لعودة القدس، لا لعودة الجولان إلى سوريا».
يوم أن جاء إلى القاهرة تسبقه شعاراته التي رفعها قبل الانتخابات التي فاز بها، قال البعض: فلنعطه فرصة حتى يثبِّت أقدامه فى الحكم، فمن يدرى، ربما عدّل بعضًا من وجهات نظره، واستجاب لنداءات المجتمع الدولي، واستمر فى تنفيذ ما جرى الاتفاق عليه فى مدريد وأوسلو وواشنطن والقاهرة، إلا أن نتنياهو خيّب ظن هؤلاء الذين راهنوا عليه، فجاء هنا وعلى أرض القاهرة مجددًا ليعلن تجاهله لكافة المفاهيم التي جرى الاتفاق عليها فى أوقات سابقة ويطرح بديلًا عنها، وهو السلام مقابل الأمن، كما راح يتحدث بغرور وصلافة عن حقوق إسرائيل التي أهدرها العرب والفلسطينيون.
يومها كتبت مقالًا فى صحيفة الأحرار بتاريخ 3 مارس1997، وجهت فيه نداء إلى من كانوا يحملون راية التطبيع مع العدو ويبحثون عن المبررات لنتنياهو وحكومته قلت فيه: من حقنا أن نسأل هؤلاء الذين طبعوا، وهؤلاء الذين تحولوا إلى جسر هدفه إدخال إسرائيل إلى النسيج العربى، بأى حق تسلمون رقابنا إلى أعدائنا، وتهيلون الثرى على تاريخنا، وتفتحون الباب واسعًا أمام مغتصبى أرضنا وقاتلى أهلنا؟!
وقلت: إن دماءنا تحترق على القدس وفلسطين وكل حبة تراب اغتصبت من أرض العرب إن الغضب يجتاح النفوس، ويغلى كالبركان فى الصدور، ولكننا سنبقى دومًا فى انتظار لحظة التحرر من السجون التى فرضت علينا، والقيود التى غلت بها أيادينا، لنحقق الانتصار ونزرع زهرة الحرية من جديد.
وقلت: إن اليأس لن يتسرب إلى نفوسنا، والقوة الإسرائيلية الغاشمة لن تهيبنا، فنحن على ثقة بأننا سندوس الباطل ونعلى راية الحق، وسنطهر الجسد العربى من الخونة والمارقين، الذين باعوا الشرف بالشيكل، وارتضوا لأنفسهم حياة خانعة ذليلة.
ويومها وجهت النداء إلى الرئيس مبارك وقلت له فى نفس المقال: إننا نهيب بالرئيس مبارك، صاحب الضربة الجوية الأولى فى حرب أكتوبر أن يلقّن هذا “النتن” درسًا يعلى من هامة مصر ويعيد الأمل للأمة.
وقلت: إن أقل إجراء يجب أن يتخذ ردًا على ما جرى فى القدس ببناء حى يهودى جديد فى القدس الشرقية هو سحب السفير المصرى من تل أبيب، وطرد سفيرهم من مصر وتجميد العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية، ليكون ذلك درسًا لهؤلاء الذين رفضوا الاستجابة لنداء السلام، وراحوا ينفذون المخططات لتهويد القدس وهدم المسجد الأقصى.
قلت للرئيس: إن ذلك هو نداء كل المصريين، وإننا نعوّل عليك، والجماهير تنتظر موقفك القومى الذى يعيد لنا كرامتنا التى تُسحق بيد هؤلاء القتلة الإرهابيين.
وقلت: إذا صمتنا اليوم على ما يجرى فى القدس، فسوف نفاجأ بالمزيد، ولن يستثنوا فى ذلك حتى أهرامات الجيزة ولا عتبات النجف ولا حتى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
قلت: إننا نمر بمنعطف خطير والناس نيام، والأمة تحتاج إلى مؤذن ينقذ ما تبقى قبل أن يجتاحنا الطوفان، ولهذا نتوجه إليك يا سيادة الرئيس والكل فى انتظار موقفك.
يومها تلقيت عتابًا من مسئول كبير، طالبنى بعدم تهييج مشاعر الناس، خاصة أن مصر أدانت بناء الحى اليهودى فى القدس الشرقية، وذكرنى هذا المسئول باحتجاج نتنياهو على ما ورد فى مقالى أثناء زيارته الأولى إلى مصر، فقلت له: إن هذا هو موقفي، وإن حكومات إسرائيل المختلفة لن تقبل بالسلام، وإن ما جرى هو ليس أكثر من خدعة، وفترة لالتقاط الأنفاس.. .انتهى الحوار مع المسئول المصرى الكبير، وكنت على ثقة من كل كلمة تفوهت بها، خاصة أن تاريخ الصهاينة ومواقفهم العقائدية المعروفة تؤكد أنهم والسلم نقيضان، وأنه حتى عندما وقع إسحاق رابين، اتفاقية أوسلو مع ياسر عرفات، قتلوه عن ترصد وعمد، واعتبروه خائنًا لما يسمى بحقوق إسرائيل التاريخية، بالرغم من أنه لم يتخل عن هذه الشعارات وتلك العقيدة، حتى وإن كانت له رؤية مختلفة فى تحقيقها، وكان نتنياهو، هو واحد من أبرز المحرضين على قتل رابين، وهو ما تحقق بعد ذلك ويومها حضر الرئيس مبارك، جنازته فى داخل الكيان الصهيونى، وكانت تلك هى الزيارة الوحيدة التى قام بها إلى إسرائيل والقى كلمة خلال الجنازة.
جاء ذلك، في الحلقات التي ينشرها «الجمهور» يوم الجمعة، من كل أسبوع ويروي خلالها الكاتب والبرلماني مصطفى بكري، شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوي ومرسي والسيسي.
اقرأ أيضاً«إعلام 6 أكتوبر» تكرم مصطفى بكري في ندوة «دور الإعلام في تحقيق التنمية المستدامة»
إرهابي وأحد عناصر داعش.. مصطفى بكري يكشف حقيقة «أبو محمد الجولاني»
مصطفى بكري: ما يحدث في سوريا مخطط بهدف إسقاط المنطقة العربية