مملكة الدراويش، مصر تكية الطرق الصوفية، نشأتها ارتبطت بحركة الزهد.. وأثارت الجدل على مدار قرون، بدأت فى العصر الأيوبى وانتشرت فى العصر العثماني، محمد على أوقف تأثيرها

بعد سنوات طويلة من الابتعاد عن الأضواء، عادت الطرق الصوفية إلى صدارة المشهد فى مصر، مع تفجر قضية الشيخ صلاح التيجانى أحد مشايخ الطريقة التيجانية، والذى طالته اتهامات بالتحرش بإحدى الفتيات، ما دفع الطريقة إلى نفى صلته بها، لكن ما حدث لفت الأنظار بقوة إلى عالم الطرق الصوفية، العالم المليء بالأسرار والحكايات الغامضة، عشرات الطرق بعضها شرعى يعمل تحت ولاية المجلس الأعلى للطرق الصوفية والبعض الآخر مجرد كيانات صغيرة تمارس طقوسها بعيدا عن الأعين.

انتقادات حادة توجه إلى الصوفية والمتصوفين فى مصر، ورغم ذلك تعج الطرق بعشرات من المشاهير وقادة الرأى الذين تحولوا إلى مريدين، يسيرون معصوبى الأعين خلف المشايخ، ما يفتح بابا واسعا من الجدل حول سيطرة الطرق الصوفية على عقول وقلوب ملايين المصريين، وسط اتهامات بـ “الدروشة” و“نشر الخرافات” تلاحق كثيرين ممن يوصفون بأنهم قادة تلك الطرق.

فى السطور التالية نفتح ملف الطرق الصوفية فى مصر.. ونرصد أماكن انتشارها وأبرز أفكارها ومعتقداتها ونلقى الضوء على أبرز مشايخها فى مصر ومهام المجلس الأعلى للطرق الصوفية ومتى أنشيء ومدى ولايته على الطرق.

يمتد تاريخ الصوفية فى مصر إلى العصر الإسلامى المبكر، حيث بدأت الصوفية كحركة روحية تسعى إلى تحقيق القرب من الله من خلال الزهد والتأمل، ويُعتبر القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادي) نقطة انطلاق مهمة للصوفية فى مصر، حيث دخلها عدد من الصوفية المعروفين، مثل الجنيد والغزالي.

وتشير دراسة بعنوان “التصوف والطرق الصوفية فى مصر: دراسة مقارنة” إلى تاريخ نشأة الطرق الصوفية فى مصر، مؤكدة أن وجود الطرق الصوفية غير الرسمى بدأ مع حركة الزهد، وكان مِن أعلامها فى مصر ذو النون المصرى فى 245 هجري، وأبو الحسن بن بنان الحمال عام 316 هجري، وغيرهما.

بدأت النشأة الرسمية للطرق الصوفية فى مصر فى العصر الأيوبى مع سعيد السعداء عام 569 هجري، ولقّب شيخ الخانقاه أو دويرة الصوفية بـ “شيخ الشيوخ”، ويرتب للفقراء المتصوفة فى كل يوم طعامًا يشمل لحما وجبنا وحلوى، فضلًا عن الزيت والصابون، وكان سكان الخانقاة من الصوفية.

وفى العصر المملوكى أُنشئت الكثير مِن الخانقاوات، مثل: خانقاه سرياقوس، أّسسها الناصر محمد بن قلاوون سنة 725 هجرية، وكان لِشيوخ الصوفية مكانة خاصة ومهابة وإجلال لدى الملوك والسلاطين آنذاك.

وكانت مصر فى تلك الفترة قبلة لكثير من أعلام الصوفية: كالشيخ أبى الحسن الشاذلي، والسيد أحمد البدوي، والشيخ عبد الرحيم القنائي، والشيخ أبى الفتح الواسطي، والشيخ أبى العباس المرسي، وظهر فى هذا العصر الشيخ إبراهيم الدسوقي.

لمصر مكانةً مميزة بين الصوفية فى العالَم الإسلامي، حيث ضمت قطبين مِن الأقطاب الأربعة للصوفية فى العالم الإسلامي، وهما (السيد البدوي، والدسوقي)، مع الشيخ أبى الحسن الشاذلي، والذى حظى بمكانة خاصة بين جموع الصوفية بجميع أطيافهم.

انتشار الطرق الصوفية

انتشرت الطرق الصوفية فى العصر العثمانى انتشارًا واسعًا، وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1213هـجرية، انقسمت الصوفية ما بين طائفة رسمية انصاعت لِلفرنسيين، وغير رسمية قاومت الحملة الفرنسية، وسعت إلى إجلائها عن البلاد.

وقد كان لِلصوفية منذ بداياتها فى مصر دور بارز فى الحياة العامة والجهاد، ويذكر الشيخ محمد زكى إبراهيم مؤسس العشيرة المحمدية وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامى:” حتى إذا غزا لويس التاسع دمياط ودعا الإمام الصوفى الشيخ أبو الحسن الشاذلى الناس إلى الجهاد بعد أن كُف بصره، ودقت طبول الحرب بين يديه، وسارع إلى موكبه كبار أئمة الدين فى عصره، ومنهم سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام، وإمام الْمحدثين زكى الدين المنذري، صاحب “الترغيب والترهيب”، ومكين الدين وابن دقيق العيد ورجاله مِن الصعيد، وابن الصلاح، إمام علماء الأصول، وغيرهم من الخاصة، فضلًا عن الجماهير الهائلة، وكان قد أثار خروج أبى الحسن وهو مكفوف حماسَ الناس وغيرتهم، فتابَعَه الآلاف يَخرجون إلى كفاح الفرنسيين بأموالهم وأنفسهم، حتى نصر اللَّه المسلمين، وتم أُسر لويس ورجاله، وحُبس فى دار ابن لقمان الصوفى بالمنصورة.

كانت المرحلة المبكرة للصوفية فى الفترة الفاطمية، فى هذه الفترة كانت الصوفية تنمو ببطء كحركة دينية روحية، ورغم توجه الفاطميين الشيعى الإسماعيلي لكنهم دعموا الأنشطة الصوفية، وكانت مصر فى هذه الفترة مركزًا للعلم والفكر الإسلامي، واستفادت الصوفية من هذا المناخ الثقافى والدينى المتنوع.

وتذكر الأبحاث، ومنها دراسة أعدها “مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية” بعنوان “خريطة الطرق الصوفية وتطوراتها فى مصر”، أن الصوفية بدأت تظهر كحركة فردية تتمحور حول الزهاد والمتصوفين الذين يبتغون الزهد والابتعاد عن الدنيا، ولم تكن منظمة بشكل كبير.

وفى عهد الدولة الأيوبية، برزت الصوفية كممارسة روحية متنامية، وكانت الصوفية مقبولة كجزء من التنوع الديني، وشهدت هذه الفترة تنظيمًا أكبر للصوفية.

ولعبت الطرق الصوفية المختلفة “الشاذلية، والرفاعية، والبدوية” دورًا مهمًا فى الحياة الاجتماعية والدينية فى هذه الفترة، وأصبحت الطريقة البدوية، التى أسسها السيد أحمد البدوي، ذات تأثير واسع جدًا.

زادت الصوفية دقة وتنظيمًا خلال الحكم العثماني، وزادت عدد الطرق الصوفية بشكل ملحوظ، رغم سيطرتهم المركزية، لكن العثمانيين لم يعارضوا انتشار الطرق الصوفية، بل دعموها أحيانًا لأسباب سياسية، وأصبحت الصوفية جزءًا من النسيج الاجتماعى فى مصر، وتم تعزيزالموالد والاحتفالات الصوفية.

دور المقاومة

وفى دراسة “التصوف والطرق الصوفية فى مصر” لمحقق كتب التراث الصوفى عاطف وفدى  قال إن الطرق الصوفية فى هذه الفترة كانت تمثل وسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية والدينية المصرية، فى مواجهة الحكم العثمانى الأجنبي، وزادت العلاقة بين الصوفية والعامة، حيث كان الصوفيون يتمتعون بقدرة كبيرة على الوصول إلى شرائح واسعة من المجتمع.

وفى القرن التاسع عشر، ومع مجيء محمد على إلى السلطة ومحاولته تحديث مصر، تغير دور الصوفية، فحاول محمد على تقليص نفوذ الصوفية، نظرًا لتوجهاته الإصلاحية العلمانية، لكنه لم يتمكن من القضاء عليها، وبدأت بعض الطرق الصوفية تفقد تأثيرها نتيجة للسياسات المركزية للدولة الجديدة.

الصوفية فى العصر الحديث

شأنها شأن العديد من الحركات الدينية الأخرى، تتقارب تارة وتتباعد أخرى من السلطة، ففى فترة ما بعد ثورة 1952 كان هناك توتر بين الصوفية والنظام الناصري، وأحكم النظام قبضته على الأنشطة الدينية، بما فيها الصوفية، من خلال سياسات تهدف إلى دمج الدين فى إطار الدولة القومية، وتم إنشاء المجلس الأعلى للطرق الصوفية عام 1961 كهيئة حكومية، بغرض تنظيم النشاط الصوفي، وضمان ألا يتعارض مع سياسات الدولة.

أما فى الوقت الحالي، فترى الدولة أن الصوفية حركة دينية معتدلة يمكن الاستفادة منها فى مواجهة التيارات الإسلامية المتشددة مثل الإخوان المسلمين والسلفيين.

الطرق الصوفية

 ووفقًا للإحصاءات الرسمية وتقارير المجلس الأعلى للطرق الصوفية فى مصر، يوجد نحو 80 طريقة صوفية معترف بها رسميًا، وتنقسم إلى عدة فروع فى مختلف المحافظات، وبعض هذه الطرق تعد من أقدم  الطرق وأكثرها تأثيرًا فى العالم الإسلامي، كما ظهرت طرق أخرى فى العصر الحديث.

وتعد الطريقة الشاذلية من أهم الطرق الصوفية فى مصر اليوم، بل ومن أقدم الطرق الصوفية فى مصر، وتتفرع إلى عدة شعب وفروع “الشاذلية اليشرطية، والشاذلية العلاوية”، كذلك الطريقة الرفاعية،  التى تأسست على يد أحمد الرفاعي، وهى منتشرة بشكل كبير فى مصر.
وهناك الطريقة البدوية تعتبر من أكبر الطرق الصوفية فى مصر، أسسها السيد أحمد البدوي، ومعروفة بإقامة الموالد والاحتفالات الكبرى. وأيضا الطريقة الخلوتية، تأسست على يد الشيخ زين الدين الخلوتي، وتنتشر بين المناطق الريفية بشكل خاص، والطريقة العزمية، طريقة حديثة نسبيًا، تأسست فى القرن العشرين.

أما الطريقة القادرية فنسبة إلى عبد القادر الجيلاني، ولها انتشار واسع فى الصعيد، والطريقة الأحمدية تركز بشكل كبير على الشعائر والموالد، خصوصًا فى المناطق الشعبية.

تمويل الطرق الصوفية

ويأتى تمويل الطرق الصوفية فى مصر من خلال عدة مصادر، وتوضح الدراسات الصوفية أبرز هذه المصادر، وتتمثل فى التبرعات والهبات، حيث يشكل التبرع الفردى المصدر الأساسى لتمويل الطرق الصوفية، وتأتى من مريدى الطريقة، الذين يقدمون هبات نقدية أو عينية لدعم الأنشطة، مثل إقامة الموالد، بناء الزوايا، وصيانة المساجد.

تمتلك بعض الطرق الصوفية اوقافا تدر دخلا ثابتا لها كما تمثل الموالد مصدرا هاما للدخل.

بالرغم من أن الدولة لا تقدم دعمًا مباشرًا كبيرًا للطرق الصوفية، لكن بعض الطرق تستفيد من التسهيلات التى تقدمها الحكومة، مثل السماح بإقامة الموالد والأنشطة دون عوائق، ويعد المجلس الأعلى للطرق الصوفية، هيئة حكومية تنظم شؤون الطرق، ويقدم بعض التوجيهات والتمويل البسيط.

وتشير بعض الدراسات الصوفية إلى أن بعض الطرق الصوفية تتلقى دعمًا ماليًا من خارج مصر، خاصة من أتباعها فى دول أخرى. هذا الدعم ليس كبيرًا ولكنه يسهم فى بعض الأنشطة الخاصة مثل بناء الزوايا أو إقامة الاحتفالات.

وتمتلك بعض الطرق الصوفية استثمارات تجارية صغيرة مثل محلات أو أعمال حرفية، وهذه الأنشطة التجارية تمثل مصدر دخل إضافى يستخدم لدعم الأنشطة الدينية والاجتماعية.

وأخيرًا، يقول عالم الاجتماع الراحل الدكتور سيد عويس فى مقال بعنوان الطرق الصوفية فى المجتمع المصرى:”فى ضوء بعض الدراسات والبحوث التى قمت بإجرائها تبين أن للطرق الصوفية فى مصر شأنًا وأى شأن، فهى من أقوى جماعات الضغط فى المجتمع المصرى المعاصر.”

وأشار “عويس” إلى أن هناك 67 طريقة صوفية مسجلة طبقًا للجدول الرسمى المعتمد، وإن عدد أبناء الطرق الصوفية المنتظمين ستة ملايين، وإن هناك ثمانى طرق صوفية غير مسجلة، وإن مشايخ هذه الطرق الأخيرة ومريديها كلهم من حملة المؤهلات العليا، وإن لدينا 2850 مولدًا للأولياء الصالحين، يحضرها أكثر من نصف سكان الدولة.